فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (61- 62):

قوله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما انقضت قصة عاد على ما أراد سبحانه، أتبعها قصة من كانوا عقبهم في الزمن ومثلهم في سكنى أرض العرب وعبادة الأوثان والمناسبة في الأمر المعذب به لأن الموصل للصيحة إلى الأسماع هو الريح وفي خفاء أمرهم، مفصلًا على أهل ذلك الزمان فقال: {وإلى} أي ولقد أرسلنا إلى: {ثمود أخاهم} وبينه بقوله: {صالحًا} ثم أخرج قوله صلى الله عليه وسلم على تقدير سؤال فقال: {قال يا قوم} أي يا من يعز عليّ أن يحصل لهم سوء: {اعبدوا الله} أي الملك الأعظم وحده لأن عبادتكم له مع غيره ليست بشيء؛ ثم استأنف تفسير ذلك فقال: {ما لكم} أغرق في النفي فقال: {من إله غيره} جريًا على منهاج الدعاة إلى الله في أصل الدين، وهو إفراد المنعم بالعبادة.
ولما أمرهم بذلك، ذكرهم قدرته ونعمته مرغبًا مرهبًا فقال: {هو} أي وحده: {أنشأكم} أي ابتدأ خلقكم: {من الأرض} بخلق آدم عليه السلام منها بغير واسطة وبخلقكم من المني من الدم وهو من الغذاء وهو من النبات وهو من الأرض كما أنشأ أوثانكم منها: {و} وفع مقداركم عليه بأن: {استعمركم} أي أهلكم لما لم يؤهل له الأوثان من أن تكونا عمارًا: {فيها} فلا تنسوا حق إلهكم وما فضلكم به من حق أنفسكم بخضوعكم لما لا يساويكم فكيف بمن أنشأكم وإياها؛ والإنشاء: الابتداء بالإيجاد من غير استعانة بشيء من الأسباب.
ولما بين لهم سبحانه عظمته، وكان الشيطان قد شبه عليهم لأنه لعظمته لا يوصل إليه بوسيلة كما هو حال الملوك وألقى إليهم أن الأوثان وسائل، نفى ذلك مبينًا طريق الرجوع إليه بقوله: {فاستغفروه} أي فأقبلوا بكل قلوبكم عليه طالبين أن يستر ذنوبكم؛ وذكر شرط المغفرة بقوله مشيرًا بأداة البعد إلى عظيم المنزلة: {ثم توبوا} أي ارجعوا بجميع قلوبكم: {إليه} ثم علل ذلك بلطفه وعطفه ترغيبًا في الإقبال إليه فقال مؤكدًا لأن من يرى إمهاله للعصاة يظن الظنون ومن عصاه كان عمله عمل من ينكر قربه وإجابته: {إن ربي} الذي أخلصت له العبادة لإحسانه إليّ وأدعوكم إلى الإخلاص له لإحسانه إليكم: {قريب} من كل من أقبل إليه من غير حاجة إلى معاناة مشي ولا حركة جارحة: {مجيب} لكل من ناداه لا كمعبوداتكم في الأمرين معًا.
ولما دعاهم إلى الحق ونصب لهم عليه من الأدلة ما هم به معترفون وذكرهم نعمه مومئًا إلى التحذير من نقمه، وسهل لهم طريق الوصول إليه، ما كان جوابهم إلا أن سلخوه من طور البشرية لمحض التقليد، فلذلك استأنف الإخبار عن جوابهم بقوله: {قالوا} أي ثمود: {يا صالح} نادوه باسمه قلة أدب منهم وجفاء: {قد كنت فينا} أي فيما بينا إذا تذاكرنا أمرك: {مرجوًا} أي في حيز من يصح أن يرجى أن يكون فيه خير وسؤدد ورشد وصلاح، واستغرقوا الزمان فحذفوا الجار وقالوا: {قبل هذا} أي الذي دعوتنا إليه فأما بعد هذا فانسلخت من هذا العداد؛ ثم بينوا ما أوجب سقوطه عندهم بقولهم منكرين إنكار محترق: {أتنهانا} أي مطلق نهي: {أن نعبد} أي دائمًا: {ما يعبد آباؤنا} وعبروا بصيغة المضارع تصويرًا للحال كأن آباءهم موجودون فلا تمكن مخالفتهم إجلالًا لهم، فأجلوا من يرونه سببًا قريبًا في وجودهم ولم يهابوا من أوجدهم وآباءهم أولًا من الأرض وثانيًا من النطف، ثم خولهم فيما هم فيه، ثم فزعوا- في أصل الدين بعد ذكر الحامل لهم على الكفر المانع لهم من تركه- إلى البهت بأن ما يوجب القطع لكل عاقل من آيته الباهرة لم يؤثر عندهم إلا ما هو دون الظن في ترك إجابته، فقالوا مؤكدين لأن شكهم حقيق بأن ينكر لأنه في أمر واضح جدًا لا يحتمل الشك أصلًا: {وإننا لفي شك} وزادوا التأكيد بالنون واللام وبالإشارة بالظرف إلى إحاطة الشك بهم: {مما} ولما كان الداعي واحدًا وهو صالح عليه السلام لم يلحق بالفعل غير نون واحدة هي ضميرهم بخلاف ما في سورة إبراهيم عليه السلام فلذلك قالوا: {تدعونا إليه} من عبادة الله وحده: {مريب} أي موقع في الريبة وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة باليقين؛ والرجاء: تعلق النفس لمجيء الخير على جهة الظن، ونظيره الأمل والطمع؛ والنهي: المنع من الفعل بصيغة لا تفعل. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}
اعلم أن هذا هو القصة الثالثة من القصص المذكورة في هذه السورة وهي قصة صالح مع ثمود، ونظمها مثل النظم المذكور في قصة هود، إلا أن هاهنا لما أمرهم بالتوحيد ذكر في تقريره دليلين:
الدليل الأول: قوله: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرض} وفيه وجهان:
الوجه الأول: أن الكل مخلوقون من صلب آدم، وهو كان مخلوقًا من الأرض.
وأقول: هذا صحيح لكن فيه وجه آخر وهو أقرب منه، وذلك لأن الإنسان مخلوق من المني ومن دم الطمث، والمني إنما تولد من الدم، فالإنسان مخلوق من الدم، والدم إنما تولد من الأغذية، وهذه الأغذية إما حيوانية وإما نباتية، والحيوانات حالها كحال الإنسان، فوجب انتهاء الكل إلى النبات وظاهر أن تولد النبات من الأرض، فثبت أنه تعالى أنشأنا من الأرض.
والوجه الثاني: أن تكون كلمة: {مِنْ} معناها في التقدير: أنشأكم في الأرض، وهذا ضعيف لأنه متى أمكن حمل الكلام على ظاهره فلا حاجة إلى صرفه عنه، وأما تقرير أن تولد الإنسان من الأرض كيف يدل على وجود الصانع فقد شرحناه مرارًا كثيرة.
الدليل الثاني: قوله: {واستعمركم فِيهَا} وفيه ثلاثة أوجه: الأول: جعلكم عمارها، قالوا: كان ملوك فارس قد أكثروا في حفر الأنهار وغرس الأشجار، لا جرم حصلت لهم الأعمار الطويلة فسأل نبي من أنبياء زمانهم ربه، ما سبب تلك الأعمار؟ فأوحى الله تعالى إليه أنهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي، وأخذ معاوية في إحياء أرض في آخر عمره فقيل له ما حملك عليه، فقال: ما حملني عليه إلا قول القائل:
ليس الفتى بفتى لا يستضاء به ** ولا يكون له في الأرض آثار

الثاني: أنه تعالى أطال أعماركم فيها واشتقاق: {واستعمركم} من العمر مثل استبقاكم من البقاء.
والثالث: أنه مأخوذ من العمرى، أي جعلها لكم طول أعماركم فإذا متم انتقلت إلى غيركم.
واعلم أن في كون الأرض قابلة للعمارات النافعة للإنسان، وكون الإنسان قادرًا عليها دلالة عظيمة على وجود الصانع، ويرجع حاصله إلى ما ذكره الله تعالى في آية أخرى وهي قوله: {والذى قَدَّرَ فهدى} [الأعلى: 3] وذلك لأن حدوث الإنسان مع أنه حصل في ذاته العقل الهادي والقدرة على التصرفات الموافقة يدل على وجود الصانع الحكيم وكون الأرض موصوفة بصفات مطابقة للمصالح موافقة للمنافع يدل أيضًا على وجود الصانع الحكيم.
أما قوله: {فاستغفروه ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} فقد تقدم تفسيره.
وأما قوله: {إِنَّ رَبّى قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} يعني أنه قريب بالعلم والسمع: {مُّجِيبٌ} دعاء المحتاجين بفضله ورحمته، ثم بين تعالى أن صالحًا عليه السلام لما قرر هذه الدلائل: {قَالُواْ ياصالح قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّا قَبْلَ هذا} وفيه وجوه: الأول: أنه لما كان رجلًا قوي العقل قوي الخاطر وكان من قبيلتهم قوي رجاؤهم في أن ينصر دينهم ويقوي مذهبهم ويقرر طريقتهم لأنه متى حدث رجل فاضل في قوم طمعوا فيه من هذا الوجه.
الثاني: قال بعضهم المراد أنك كنت تعطف على فقرائنا وتعين ضعفاءنا وتعود مرضانا فقوي رجاؤنا فيك أنك من الأنصار والأحباب، فكيف أظهرت العداوة والبغضة ثم إنهم أضافوا إلى هذا الكلام التعجب الشديد من قوله: {فقالوا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا} والمقصود من هذا الكلام التمسك بطريق التقليد ووجوب متابعة الآباء والأسلاف، ونظير هذا التعجب ما حكاه الله تعالى عن كفار مكة حيث قالوا: {أَجَعَلَ الآلهة إلها واحدا إِنَّ هذا لَشَئ عُجَابٌ} [ص: 5] ثم قالوا: {وَإِنَّنَا لَفِى شَكّ مّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} والشك هو أن يبقى الإنسان متوقفًا بين النفي والإثبات والمريب هو الذي يظن به السوء فقوله: {وَإِنَّنَا لَفِى شَكّ} يعني به أنه لم يترجح في اعتقادهم صحة قوله وقوله: {مُرِيبٍ} يعني أنه ترجح في اعتقادهم فساد قوله وهذا مبالغة في تزييف كلامه. اهـ.

.قال الجصاص:

قَوْله تَعَالَى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}
نَسَبَهُمْ إلَى الْأَرْضِ لِأَنَّ أَصْلَهُمْ وَهُوَ آدَم خُلِقَ مِنْ تُرَابِ الْأَرْضِ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقِيلَ: إنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ خَلَقَكُمْ فِي الْأَرْضِ.
وَقَوْلُهُ: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} يَعْنِي: أَمَرَكُمْ مِنْ عِمَارَتِهَا بِمَا تَحْتَاجُونَ إلَيْهِ.
وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ عِمَارَةِ الْأَرْضِ لِلزِّرَاعَةِ، وَالْغِرَاسِ، وَالْأَبْنِيَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: مَعْنَاهُ: أَعْمَرَكُمْ بِأَنْ جَعَلَهَا لَكُمْ طُولَ أَعْمَارِكُمْ، وَهَذَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَعَمَرْتُك دَارِي هَذِهِ يَعْنِي مَلَّكْتُك طُولَ عُمْرِك.
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أُعْمِرَ عُمْرَى فَهِيَ لَهُ وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ»، وَالْعُمْرَى هِيَ الْعَطِيَّةُ إلَّا أَنَّ مَعْنَاهَا رَاجِعٌ إلَى تَمْلِيكِهِ طُولَ عُمْرِهِ، فَأَجَازَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعُمْرَى، وَالْهِبَةَ وَأَبْطَلَ الشَّرْطَ فِي تَمْلِيكِهِ عُمْرَهُ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْقِدُونَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ بَعْدَ مَوْتِهِ يَرْجِعُ إلَى الْوَاهِبِ. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْلُهُ: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ إنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ}.
قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ: الِاسْتِعْمَارُ طَلَبُ الْعِمَارَةِ، وَالطَّلَبُ الْمُطْلَقُ مِنْ اللَّهِ عَلَى الْوُجُوبِ.
قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ: تَأْتِي كَلِمَةُ اسْتَفْعَلَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ عَلَى مَعَانٍ، مِنْهَا اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى طَلَبَ الْفِعْلَ، كَقَوْلِهِ: اسْتَحْمَلْت فُلَانًا أَيْ طَلَبْت مِنْهُ حُمْلَانًا. وَمِنْهَا اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى اعْتَقَدَ، كَقَوْلِهِمْ: اسْتَسْهَلْت هَذَا الْأَمْرَ، أَيْ اعْتَقَدْته سَهْلًا، أَوْ وَجَدْته سَهْلًا، وَاسْتَعْظَمْته أَيْ اعْتَقَدْته عَظِيمًا. وَمِنْهَا اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى أَصَبْت الْفِعْلَ، كَقَوْلِك: اسْتَجْدَتْهُ، أَيْ أَصَبْته جَيِّدًا، وَقَدْ يَكُونُ طَلَبْته جَيِّدًا. وَمِنْهَا بِمَعْنَى فَعَلَ، كَقَوْلِهِ، قَرَّ فِي الْمَكَانِ وَاسْتَقَرَّ.
وَقَالُوا: إنَّ قَوْلَهُ يَسْتَهْزِئُونَ، وَيَسْتَحْسِرُونَ مِنْهُ، فَقَوْلُهُ تعالى: {اسْتَعْمَرَكُمْ}: خَلَقَكُمْ لِعِمَارَتِهَا عَلَى مَعْنَى اسْتَجْدَتْهُ وَاسْتَسْهَلْته، أَيْ أَصَبْته جَيِّدًا وَسَهْلًا، وَهَذَا يَسْتَحِيلُ فِي الْخَالِقِ، فَتَرْجِعُ إلَى أَنَّهُ خُلِقَ؛ لِأَنَّهُ الْفَائِدَةُ، وَيُعَبَّرُ عَنْ الشَّيْءِ بِفَائِدَتِهِ مَجَازًا، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْأُصُولِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ طَلَبَ مِنْ اللَّهِ ضِمَارَتَهَا؛ فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ، أَمَّا إنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ اسْتَدْعَى عِمَارَتَهَا فَإِنَّهُ جَاءَ بِلَفْظِ اسْتَفْعَلَ، وَهُوَ اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ بِالْقَوْلِ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ إذَا كَانَ أَمْرٌ، أَوْ طَلَبَ الْفِعْلَ إذَا كَانَ مِنْ الْأَدْنَى إلَى الْأَعْلَى رَغْبَةً، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْأُصُولِ. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {... هو أنشأكم من الأرض} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: خلقكم من الأرض لأنكم من آدم وآدم من الأرض، قاله السدي.
والثاني: معناه أنشأكم في الأرض.
والثالث: أنشأكم بنبات الأرض.
{واستعمركم فيها} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: معناه أعمركم فيها بأن جعلكم فيها مدة أعماركم، قاله مجاهد، من قولهم أعمر فلان فلانًا داره فهي له عمرى.
الثاني: امركم بعمارة ما تحتاجون إليه فيها بناء مساكن وغرس أشجار قاله علي بن عيسى.
الثالث: أطال فيها أعمالكم، قال الضحاك، كانت أعماركم ألف سنة إلى ثلاثمائة سنة.
قوله عز وجل: {قالوا يا صالحُ قد كنت فينا مرجُوًّا قَبل هذا} فيه وجهان:
أحدهما: أي مؤملًا برجاء خيرك.
الثاني: أي حقيرًا من الإرجاء وهو التأخير، فيكون على الوجه الأول عتبًا، وعلى الثاني زجرًا. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا}
التقدير: وأرسلنا إلى ثمود وقد تقدم القول في مثل هذا وفي معنى الأخوة في قصة هود.
وقرأ الجمهور: {وإلى ثمودَ} بغير صرف، وقرأ ابن وثاب والأعمش: {وإلى ثمود} بالصرف حيث وقع، فالأولى على إرادة القبيلة، والثانية على إرادة الحي، وفي هذه الألفاظ الدالة على الجموع ما يكثر فيه إرادة الحي كقريش وثقيف وما لا يقال فيه بنو فلان؛ وفيها ما يكثر فيه إرادة القبيلة كتميم وتغلب، ألا ترى أنهم يقولون تغلب ابنة وائل، وقال الطرماح: [الطويل]
إذا نهلت منه تميم وعلّت

وقال الآخر: [المتقارب]
تميم ابن مر وأشياعها

وفيها ما يكثر فيه الوجهان كثمود وسبأ، فالقراءتان هنا فصيحتان مستعملتان. وقرأت فرقة {غيرُه} برفع الراء، وقد تقدم آنفًا.
و: {أنشأكم من الأرض}، أي اخترعكم وأوجدكم، وذلك باختراع آدم عليه السلام: فكأن إنشاء آدم إنشاء لبنيه: {واستعمركم}، أي اتخذكم عمارًا، كما تقول: استكتب واستعمل. وذهب قوم إلى أنها من العمر أي عمركم، وقد تقدم مثل قوله: {فاستغفروه ثم توبوا إليه}.
{إن ربي قريب مجيب}، أي إجابته وغفرانه قريب ممن آمن وأناب، و: {مجيب}، معناه بشرط المشيئة والظاهر الذي حكاه جمهور المفسرين أن قوله: {مرجوًا} معناه: مسودًا؛ نؤمل فيك أن تكون سيدًا سادًّا مسدّ الأكابر، ثم قرروه على جهة التوبيخ في زعمهم بقولهم: {أتنهانا} وحكى النقاش عن بعضهم أنه قال: معناه حقيرًا.
قال القاضي أبو محمد: فأما أن يكون لفظ: {مرجوًا} بمعنى حقير فليس ذلك في كلام العرب، وإنما يتجه ذلك على جهة التفسير للمعنى، وذلك أن القصد بقولهم: {مرجوًا} يكون: لقد كنت فينا سهلًا مرامك قريبًا رد أمرك، ممن لا يظن أن يستفحل من أمره مثل هذا فمعنى مرجو أي مرجو اطراحه وغلبته ونحو هذا، فيكون ذلك على جهة الاحتقار، فلذلك فسر بحقير، ويشبه هذا المعنى قول أبي سفيان بن حرب: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة... الحديث؛ ثم يجيء قولهم: {أتنهانا} على جهة التوعد والاستشناع لهذه المقالة منه.
و: {ما يعبد آباؤنا} يريدون به الأوثان والأصنام، ثم أوجبوا أنهم في شك من أمره وأقاويله، وأن ذلك الشك يرتابون به زائدًا إلى مرتبته من الشك قال القاضي: ولا فرق بين هذه الحال وبين حالة التصميم على الكفر، و: {مريب} معناه ملبس متهم، ومنه قول الشاعر: [الرجز]
يا قوم ما بال أبي ذؤيب ** كنت إذا أتيته من غيب

يشم عطفي ويمس ثوبي ** كأنني أربته بريب

. اهـ.